هذه الآيات الكريمة تضمنت أصول الغايات، والحقائق الكبرى للدين، وهي:
الغاية من خلق الثقلين وحقيقة مهمتهم.
الغاية من إرسال الرسل وحقيقة دعوتهم.
حقيقة سنة اقتران القوة بالحق لتحقيق تلك الغايات.
فالله تبارك وتعالى خلق آدم وذريته مفطورين على الإيمان والتوحيد، وظلت الجماعة البشرية الأولى سائرة على هذا المنهج القويم ما شاء الله أن تسير .
ثم أصابتها السنة الكونية ((وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ))[هود:118-119] تلك السنة التي تـقتضي وتستلزم من الحكم والمصالح، وظهور آثار صفات الله عز وجل ما يعجز عنه البيان.
ومنذ أن وقع الشرك الأول في بني آدم والمعركة قائمة لم تهدأ، مستعرة لم تخب بين الحق والباطل وبين الإيمان والكفر.
وقد تمثل الشرك الأول في الركنين الأساسين لمفهوم العبادة وهما:
1- التقرب والتوجه والتنسك.
2- الطاعة والتشريع والاتباع.
وهما ركنان متداخلان.
وما صح لدينا من أخبار الأمة الشركية الأولى قوم نوح يدل على ذلك:
1- قال الله تعالى عنهم:
((وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً))[نوح:23].
وهذه الأصنام التي تنسكت الجاهلية الأولى بالتقرب إليها، وهي في الأصل أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كان يجلسون أنصاباً [تماثيل]، وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد [أول الأمر] حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عُبدت. .
2- روى مسلم عن عياض بن حمار -رضي الله عنه- أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذات يوم في خطبته: {ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته عبداً حلالٌ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً..}
فهذا انحرافهم في الطاعة والتشريع، المقارن لشركهم في التقرب والتنسك.
ومن ثبات السنن الدالة على وحدة المعركة أولاً وأخراً أن الله بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , والعرب واقعة في الشرك في هذين الركنين عينهما، فقد كانت تعبد الأصنام نفسها التي عبدها قوم نوح إذ [[ صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود فكانت لكلب بـدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بـالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع ]] مع ما أضافه عمرو بن لحي الخزاعي .
والطواغيت بعده من أصنام أخرى كاللات والعزى ومناة وهُبل، وتشريعات غيروا بها ملة إبراهيم.
فكانت العرب أيضاً واقعة في شرك الطاعة والاتباع، وقد ذكر الله تعالى أمثلة له من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وغيرها مما أفاضت فيه سورة الأنعام مثل: قتل الأولاد، واستحلال الميتة، وما جعلوا لله مع شركائهم من نصيب في الحرث والأنعام، وما جعلوا منها من حجر لا يطعمه إلا من يشاءون بزعمهم وما حرموه من ظهورها.. كل ذلك افتراءً على الله، وتخرصاً على دينه، واتباعاً للشياطين ((وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ))[الأنعام:121].
وهو ما ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث السابق عن أصحاب الشرك الأول.
ولمناسبة كون المعركة -من نوح إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واحدة، وقضيتها واحدة، جاء التعبير عن الرسالات جميعاً بأنها كتاب واحد -في الآيات السابقة-: (( وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيه))[البقرة:213]، (( وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ))[الحديد:25].
وقوله: ((اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ))[الشورى:17] ونحوها.
كما جاء التعبير عن رفض دعوة الرسل وعبادة غير الله- مهما تباعدت الأجيال، وتنوعت المعبودات -بأنه عبادة للشيطان ((أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ))[يس:60-61].
وكذلك جاء وصف أعداء الرسالات من البشر موحداً كذلك وهو الملأ المستكبرون أصحاب السلطان والمال وذلك في آي كثير.
وموجز دعوة الرسل جميعاً أنها دعوة واحدة إلى منهج التوحيد بكل فروعه وأنواعه، وموالاة أهله، وما يستلزمه ذلك من نبذ الشرك بكل صوره وألوانه، ومعاداة أهله.
وغاية دعوتهم هي مصلحة العالمين أنفسهم، لكي تقوم حياتهم بالقسط في الدنيا، وينعموا برضا الله وجنته في الآخرة ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ))[الأنبياء:107].
ومن هنا ارتبطت دعوتهم بالجهد والعمل، وارتبط كتابهم بالسيف والحديد.
إن حقيقة المعركة التي خاضها الأنبياء مع أممهم، والسنة الثابتة في دعوتهم، لا تتجلى إلا لمن عرف حقيقتين مهمتين ينبغي لمن أراد الانضمام لموكبهم الكريم وركبهم الناجي أن يجعل معرفتهما منطلقاً لدعوته وأساساً لمنهجه:
1- طبيعة الدين كما أنزله الله وأراده أن يتحقق في واقع الأرض.
2- طبيعة الجاهلية التي نزل لإبطالها وحربها.
والآن وقد دار الزمان دورة ثالثة حتى أوشك أن يعود كهيئته يوم أن بعث الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [حيث تردى العالم الإنساني المعاصر إلا قليلاً في عين ما وقع فيه قوم نوح والعرب من شرك في التقرب والنُسك، وفي الطاعة والتشريع ] أصبح لزاماً على أولي البقية الذين ينهون عن الفساد في الأرض تجلية هذه الحقائق عن الدين، قبل الدخول في أية تفصيلات أو مناقشات مع الفرق المخالفة أو مع المتلوثين بهذا الشرك الجديد، فالتوحيد هو أول واجب على العبد وأول موضوع للدعوة.
ذلك أن الخلل ليس في العمل والسلوك بل تعداه إلى العقيدة ذاتها، فانحسرت مفهوماتها، وانحصرت مدلولاتها، ونسيت المهمة التي جاء الدين من أجلها وقام عليها، ودرس الإسلام كما يدرس الثوب الخلق حتى لم يبق منه في أكثر البقاع وعند أكثر الناس إلا اسمه، ولم يبق من القرآن إلا رسمه .
وليس أمام الغرباء الذين يريدون القيام مقام الأنبياء بهداية الناس للحق، ويمثلون الطائفة المنصورة الناجية التي كتب الله أن تظل على الحق لا يضرها من خالفها، ليس أمامهم من خيار في البدء بتصحيح العقيدة، وتجلية مفهوماتها من خلال هاتين الحقيقتين، ثم البيان العلمي الواضح لأصول الدين وحقائقه.